الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

[ كنتُ مع الجوّالة في الحج ]


يبتي

[ كنتُ مع الجوالة في الحج ]

كلُّ حكاية تروى، أو قصة تحكى، يجب أن يكون لها تفاصيل تبنى منها، وأحداث تسمدُّ الحروف منها المداد. وأنا اليوم حينما أحاول استحضار تلك التفاصيل والأحداث أجد قلمي ينزوي عني خجلا، والحرف يتوارى خلفه في مشهد عجيب. أقطب عن حاجبيّ وأحكّ الناصية في تساؤل وذهول، فنادرًا ما يحصل لي ذلك الموقف، ونادرًا من ذلك النادر حينما لا أجد تفسيرًا له، فلا أجد نفسي إلا واضعًا عشرات التفاسير لهذا الموقف، ولا أجد من بينها إلا تفسيرًا واحدًا يستحقّ أن يكون تبريرًا، فابتسم وأتمتم قائلا: في بعض الأحايين يستعصي القلم والحرف على الكاتب لا عجزا أو كسلا ولا فقرا في الأحداث والتفاصيل بل لعظم الموصوف ومكانته في القلب، فيكون هنالك انفصال شاسع بين فلك المشاعر وأرض الواقع، فمتى استطاعت الحروف أن تحمل المشاعر التي في الأعماق؟ ومتى أستطاع القلم أن يروي تراتيل القلب على أكمل وجه؟ رغم هذا كله سأتحامل على القلم وحرفه وأحاول عبثا أن أسطر أسطرًا في تلك التجربة. كانت البداية حينما كنت في الحرم ذات فجر مُزدحم في مشهد مهيب اختلط فيه الأجناس والجنسيات، والأعراق والأعمار، كنت أنظر مُتأملا في الشيوخ الطاعنين في السن وهم يقصون عليّ حكاية قدومهم لمكة والمدينة، كنت أتأمل في كل شخص وهو يروي لي حكايته، فلا أجد إلا قاسمًا واحدًا يجمع كل تلك القصص وهو عظم التضحية التي قدموها للقدوم إلى هنا، كنت أقارن حكاياهم بالواقع الذي نعيشه فما وجدت سوى كبير فضل الله علينا حينما اصطفانا لنكون من بلد يضم بين جنباته الحرمين الشريفين. أخذت أتساءل أتلك نعمة جاءت بواسطة أو وسيط، أم أننا شعب الله المختار الذين يتفضل عليه الجبار دون شكر أو سؤال؟ حاشا وكلا فلسنا سوى غيرنا من الشعوب الأخرى والأجناس الأخر، ولكن الله – عز وجل - امتننا بهذه النعمة ليرى من يشكر أم يكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غنيّ عن العاملين، أخذت أتساءل كيف يمكننا أن نشكر الله عن هذه النعمة؟ وجدت من أقرب السبل لشكر الله رغم كثرتها – بالنسبة لي - المشاركة مع الجوالة في خدمة ضيوف بيت الله الحرام في موسم الحج، وازداد تطلعي لسلوك هذا السبيل بعدما علمت بأن "الحركة الكشفية السعودية" هي المسؤول الوحيد عن التائهين في الحج، فعزمتُ أمري واتخذت قراري وشرعت في العمل لتحقيق ذلك الهدف، فتواصلت مع الجوالة وكانت البداية "بالدورة الأولية" التي تعتبر من متطلبات المترشحين للحج، فما وجدت منهم إلا طيب التعامل، ودماثة الخلق ولين الجانب، فزاد حماسي نحو الهدف وأطلقت العنان لفرشات الشوق لترسم خيال الأحداث مع اقتراب موعد الحج أكثر فأكثر، وصل الموعد وحان اللقاء في صبيحة يوم السبت 29\11 فلا تسأل عن الأخوة التي تجمع أعضاء الجوالة مع بعضهم البعض ولا عن القلب واليد الواحدة ، لا تسأل عن أخلاقهم ولا عن تفاعلهم ولا عن بذلهم فمن يمتلك نفوسًا عظيمة لا يُستغرب منه هذا كله، قد يظن ظان –وحق له- بأنّ كلامي هذا مُجرد تطبيل وترفيع، ونسج لخيال لا واقع له ولكن أقول بلسان الواثق: الظروف الصعبة، والمواقف المرهقة تخرج معادن الرجال، وتكسر كل قناع يُقتنع به .. وصدق من قال بأن السفر يُسفر عن أخلاق الرجال. أنا هنا لا ولن أستطيع الحديث عن الأحداث والمواقف، فأنا مقيّد بطول معيّن لا أتجاوزه، فلن أتحدث عن "عرفة ولا منى الجبل" لا عن "المطر والإخلاء" ولا عن معسكر العزيزية والحديبية والإيواء، لن اتحدث عن "الإبريق الأصفر ولا القدر والملاعق" كذلك الصيحات والتكييف، لن أتحدث عن هذا رغم التفاصيل الممتعة التي تحملها بين طياتها ولا عن الكثير والكثير من غيرها، ولكني سأختصر كل ذلك في أمرين، الأول: اعلم أيها القارئ الكريم بأن كلّ تجربة لا تخلو من إيجابيات وسلبيات، وتكون أمام أمرين لا ثالث لهما، إما أن تذوب الإيجابيات في السلبيات فتتفرد السلبيات بالذكر أو العكس فلا يوجد تجربة يتفرد فيها الحسن أو السوء لوحده! الثاني: عجلة الحياة تتدحرج مُسرعة دون توقف وسنخرج منها دون سابق إنذار فبماذا سنقابل الله عز وجل حينما يسألنا عن الشكر الذي قدمناه لنعمة لا تقدر بثمن وهي انتماؤنا ووجودنا في بلد يضم الحرمين الشريفين ويتسنى لنا زيارتهما متى ما شئنا ووقت ما شئنا بتكاليف زهيدة، سيسألنا الله عن هذه النعمة وعن غيرها فلنعد للسؤال جواب، وللسفر زاد. بعد هذه التجربة أقول: يا حسرة على سنين قضيتها في الجامعة دون أن أشارك مع الجوالة في الحج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق