ذكريات عُمريَّة (1)
[ إلتفافُ الأغصان ]
عجيبة تلك الأشجار الكثة العالية، حينما تقفُ باصطفاف مُتقن حول بعضها
البعض في إحدى الغابات .. تنبهر من جمالها وتأخذ إحداهن لتتفحصها عن قرب علك
تكتشفُ مكانين الجمال وجلال الكمال، تقترب منها يدفعك الفضول ويجرّك عطشك نحو
ينابيع الحُسن ، تقترب لأجملهنّ فتتفحصها بهيبة الإحترام ولهث الشوق .. فجبروت
المنطق وأدبيّاته تنهار في بلاط الجمال.
تستغرب من جمالها وتناسقها، وتسبّح الخالق كيف أبدع .. تتأمل الأغصان
كيف إلتفت باتساق على الجذع ، وكأنها طفلة تائهة قد اهتدت إلى أحضان أمها فكبّلتها
في حنان ، ترجع رأسك إلى الخلف كي ترفعه على أمل رؤية القمة .. فتشدّك أعشاش
العصافير المتناثرة عليها وكأنها تهمس في أذنيك وهي قائلة .. أمانُ الطائر من أمان
عشه، وسعادة بيته من سعادة شجرته.
تتراجع بخطواتك في هدوء إلى الخلف فيبدد سكون صمتك صوت تحطم غصن
وتناثر أوراقه .. فتبعد قدمك عنه لتكتشف غصن مثمر قد أخذ من الحسن حقه متمدد
باستسلام للموت الذي يسري من أطرافه في اصفرار فتتساءل بذهول على عجل .. كيف حدث ذلك
؟ وكيف يفرط جذع بفلذة كبده ؟ فتبحث بفضول غير الفضول الأول عن السبب .. فضول
الشفقة والرحمة فترى بجانبه جذع يتمايل في انكسار ويئن في انهزام فتقترب منه
لتواسيه بلغة الكون فترى العجب !
يا ترى لماذا أغصانه في كل حدب تذهب ؟ وليس إلى أصل يعود ؟ يا ترى لما
أصبح لقمة سانحة لكل هبة هواء تلعب به كيف شاءت بعكس أغصان الشجرة الأولى التي تقف
في شمم متحدية عواصف الصحراء دون تزحزح .. أللتفرق دور حتى ولو كانت الجذور واحدة
؟
: هلا .. عمر .. ركبنا وينك ؟
أصحو من خيالي واستجمع بقايا الواقع من حولي لأكتشف أين أنا فأجد الموج
غاضبًا وهو يواصل دفعه لقدمي المغروستين في حرمه وكأنه يحاول إخراجها .. فأنا ابن
الصحراء لا البحر ، صديق الضب لا السمك :)
نهضت ولملمت أغراضي من عند الشاطئ وعدت أدراجي نحو الشاليه متأملا
فلما وقفتُ على أعتابه ابتسمت وأنا أقول : نحنُ أغصان والجذوع عوائلنا .. لن
تفيدنا جذورنا إن تفرقت أغصاننا .. فلنلتفَّ حول الجذوع ونتلوا تراتيل الشكر في
خضوع ونقول : إنّ الأغصان إذا تفرقت تبعثرت.
فباسم الله ابدأ الذكريات العُمريّة .. لا تنتظر مني سردًا قصصيًا ,
فلست من يهوى الظواهر, ولا من يُعجب برأس الجبل الجليدي .. ولكن أنتظر مني الغوص في أعماق الأحداث واستخراج لآلئ الفوائد
المكنونة بداخلها, والتأمل بين سطورها جيدًا , فاحتملني يا صديقي : )